بسم الله الرحمن الرحيم
صيفُنا اللَّهابُ
يحفل تراثنا العربي بكمٍّ غير قليل من ذكر (الصيف) في شعره ونثره ، فمن واصفٍ للصيف ، ومن مادح لبعض جوانبه ، ومن ذاكرٍ لخصائصه ، ومن مبيِّنٍ لمحاسنه ، ومن آخرَ مشيرٍ لمساوئه .
فهاهم يصفون الشيء السريع الزوال بسحابة الصيف التي لا تمكث في السماء كثيراً ، ولهذا فمن أمثال العرب المشهورة :سحابة صيفٍ عن قليلٍ تنقشع ، ومن ذلك أخذ شاعرهم هذا المعنى، فقال:
وما المالُ إلاّ مُزْنُ صَيفٍ وقلَّما يدومُ ويجدي للصَّدى ذلكَ الطشُ
ومن مزايا الصيف التي ذكرها العرب قديماً أن الرؤوس تُكشف فيه هروباً من الحرارة، وفراراً من أي عبءٍ حتى ولو كان عبءَ اللباس :
لو قدْ أتى الصيفُ الذي فيهِ رؤوسُ الناسِ تُكشفُ
وإذا كانت حرارة الصيف تستلزم مزيدَ عنايةٍ بالدواب ؛ إكراماً لها ، وصوناً لها من الهلكة ، والإعياء ، فإنَّ العربَ تفطنوا لذلك ، وأثنوا على الدواب التي تنال قَدْراً من الإكرام، ومدحوا صاحبها المشفق عليها ، فقالوا :
جيادُكَ في الصيفِ في نِعْمَةٍ تُصانُ الجلال وتُنطى الشَّعيرا
بل إنَّ هناك (دلعاً) خاصاً للبرذون الذي يتمتع بإجازته السنوية في فصل الصيف ، فها هو الجاحظ يقول : ولو طحن ( البرذون ) يوماً واحداً في الصيف لسقط .
ولعل (البرذون) معذور في عدم عمله في الصيف ، ذلك أن الصيف قد يحرق المنازل ، فقد ذكروا أن الحيرة أرض باردة في الشتاء، وفي الصيف ينزعون ستور بيوتهم مخافة إحراق السمائم لها .
وإذا كانت بعض نسائنا يضجرن من ولادتهن في فصل الصيف لما يلاقين من مكابدة الصيف ، ويتضمرنَ من حرارة الجوّ ، فإنا نقول لنسائنا هؤلاء : من العزاء لكنّ أن تعلمن أنَّ خلقاً من خلق الله تعالى لا يلد إلى في الصيف ، فهذه كتب الأدب تذكر لنا أنَّ (الدلفين) له لبن، ويرضع، ويحمل عشرة أشهر، وتلد في الصيف ولا تلد في زمانٍ آخر ألبتة ، فبعد حمل عشرة أشهر تلد في الصيف ، ولله في خلقه شئون !
وإليك أيها القارىء الكريم هذه الحكاية الطريفة : قال إبراهيم بن السندي: نظر رجلٌ من قريش إلى صاحب له قد نام في غداةٍ من غدوات الصيف طيبة النسيم، فركضه برجله وقال: ما لك تنام عن الدنيا في أطيب وقتها، نم عنها في أخبث حالاتها، نم في نصف النهار لبعدك عن الليلة الماضية والآتية، ولأنها راحةٌ لما قبلها من التعب، وجِمامٌ لما بعدها من العمل، نمت في وقت الحوائج، وتنبهت في وقت رجوع الناس ( لم يقتصر تلذذهم على ليل الصيف ، بل حتى فيما يقرب منه ، ربما كانوا " يواصلون " ، وقد يكون السبب أنه ليس عندهم سوق أسهم ، يجبرهم على القيام ضحى الصيف !! )
وإذا كان الناس لا يكادون اليوم يملكون أنفسهم عند رؤية البطيخ ، فإن أسلافهم العرب قد ذكروا شدة ولعهم بالبطيخ في فصل الصيف ، فهذا شاعرهم ( العيّار ) يرسم أحلى دعاية مجانية لبائعي البطيخ فيقول :
ومن لم يكن في الصيفِ بطيخُنا له فكيف يرجّي عمره ويعيش؟!
لكنَّ بعض الناس لا يروق له شيءٌ في الصيف ؛ لأن حرارة الصيف تذهب رونق الفواكه وتمنع لذة الأكل:
إنَّ كان في الصيف أثمارٌ وفاكهة فالأرضُ مستوقدٌ والحَرُّ تنورُ
ومن بدائع تشبيهات العرب أنهم يشبهون الشيء الطويل الممتع المتعب بنهار الصيف، لطوله وعدم إمكان الحركة فيه ، وعدم القدرة على النوم فيه ، فها هو الشاعر يقول :
لنا صديقٌ مليحُ الوجهِ مقتبلٌ وليسَ في ودِّهِ نَفعٌ ولا بَرَكَهْ
شبَّهتُهُ بنهارِ الصَّيفِ يوسِعُنا طُولاً ويمنعُ مِنَّا النَّومَ والحَرَكَهْ
ومن طرائف ما يُنسب إلى (جحا) إشارته إلى أن فصل الصيف ربما أذاب الإنسان من حرارته ، قيل لجحا: ما لوجهك مستطيلاً؟ قال: ولدتُ في الصيف ، ولولا أن الشتاء أدركهُ لسال وجهي .
ولأنَّ من عادة العقرب أنْ تؤذي الناس صيفاً فإنها تختفي عنهم شتاءً : قيل للعقرب: لم لا تشمسين في الشتاء مع الناس ؟ قالت: من كثرة إحساني إليهم في الصيف !!
ومن العجائب أن بعض (سهرات) الصيف تبدأ بلهوٍ وتنتهي إلى ما لا تُحمد عقباه، ومن ذلك أن الحسين بن الضحاك شرب يوماً عند إبراهيم بن المهدي، فجرت بينهما ملاحاةٌ في أمر الدين والمذهب، فدعا له إبراهيم بنطع وسيف وقد أخذ منه الشراب، فانصرف وهو غضبان. فكتب إليه إبراهيم يعتذر إليه ويسأله أن يجيئه. فكتب إليه:
نديمي غير منسوب إلى شيءٍ من الحيفِ
ومن طرائف ما يُنسب إلى (جحا) إشارته إلى أن فصل الصيف ربما أذاب الإنسان من حرارته ، قيل لجحا: ما لوجهك مستطيلاً؟ قال: ولدتُ في الصيف ، ولولا أن الشتاء أدركهُ لسال وجهي .
ولأنَّ من عادة العقرب أنْ تؤذي الناس صيفاً فإنها تختفي عنهم شتاءً : قيل للعقرب: لم لا تشمسين في الشتاء مع الناس ؟ قالت: من كثرة إحساني إليهم في الصيف !!
ومن العجائب أن بعض (سهرات) الصيف تبدأ بلهوٍ وتنتهي إلى ما لا تُحمد عقباه، ومن ذلك أن الحسين بن الضحاك شرب يوماً عند إبراهيم بن المهدي، فجرت بينهما ملاحاةٌ في أمر الدين والمذهب، فدعا له إبراهيم بنطع وسيف وقد أخذ منه الشراب، فانصرف وهو غضبان. فكتب إليه إبراهيم يعتذر إليه ويسأله أن يجيئه. فكتب إليه:
نديمي غير منسوب إلى شيءٍ من الحيفِ
سقاني مثل ما يشرب فعلَ الضيفِ بالضيفِ
فلما دارت الكأسُ دعا بالنّطعِ والسيفِ
فلما دارت الكأسُ دعا بالنّطعِ والسيفِ
كذا من يشرب الخمر معَ التنينِ في الصّيفِ
قال: ولم يَعُدْ إلى منادمتِهِ مدةً .
وأخيراً فأعاننا الله تعالى على شكر النعيم الوارد في قوله تعالى: " ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيم " قالوا: النعيم: الظلُّ ، والماء البارد في الصيف.
د/ إبراهيم بن عبد الله الغانم السماعيل
10 / 6 / 1428 هـ
قال: ولم يَعُدْ إلى منادمتِهِ مدةً .
وأخيراً فأعاننا الله تعالى على شكر النعيم الوارد في قوله تعالى: " ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيم " قالوا: النعيم: الظلُّ ، والماء البارد في الصيف.
د/ إبراهيم بن عبد الله الغانم السماعيل
10 / 6 / 1428 هـ
ماشاء الله تبارك الله
ردحذفتقبل مروري
ابنك
أسامة القرني