2010/05/19

مواقف من مستشفى النقاهة




بسم الله الرحمن الرحيم

مواقف من مستشفى النقاهة
يرويها :
إبراهيم بن عبد الله السماعيل
1416هـ


الحمد لله رب العالمين ، الحمد لله القائل : - تعالى - (وما بكم من نعمة فمن الله )والقائل : - سبحانه - (وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) ، والصلاة والسلام على إمامنا ونبينا محمد القائل – وهو الصادق المصدوق – " نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ " رواه البخاري ، والقائل عليه أفضل صلاة وأتم تسليم " من أصبح منكم آمناً في سربه ، معافى في جسده ، عنده قوت يومه ، فكأنما حيزت له الدنيا " رواه الترمذي وابن ماجه أما بعد:
فإن الصحة أيها الإخوة نعمة عظيمة جسيمة كبيرة لا يقدر قدرها إلا من فقدها ؛ فهي تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى ، ومن هنا فقد اخترت لكم صوراً من حال بعض إخواننا المرضى في مستشفى النقاهة ، راجياً من الله – تعالى – لهم الشفاء ، ولنا ولكم دوام الصحة والعافية ، وأن يحيي قلوبنا بمثل هذه القصص ، والآن إلى أولاها :

( 1 ) انظر إلى هذه الصورة الدامية المبكية المؤلمة : شاب في مقتبل العمر ، قد أنهى دراسته الثانوية ، ثم التحق بالجامعة ، ولكن قدر الله – تعالى – سبق إليه ، فأصابه حادث في سيارته حينما كان في طريق من طرق أعماله في حاجة من حوائجه ، فنتج عن هذا الحادث المروري أن أُصيب هذا الشاب بشلل ألزمه الفراش ، وزيادة على ذلك فقد أُصيب في رأسه إصابة أفقدته الكلام ، فأصبح يراك ويسمعك ، غير أنه لا يستطيع أن ينبس ببنت شفة ، فلم يعد قادراً على الكلام ، و قد وُضع على صدره منشفة لتحفظ ملابسه من البلل ؛ لأنه لا يملك الخارج من فمه وكأنه طفل رضيع .
أما عن طريقة التفاهم معه فإنك تسأله عن اسمه ؟ فيحرك يده بصعوبة بالغة ليشير إلى مجموعة حروف متقطعة في حجره ، ومن مجموع الحروف تستطيع معرفة اسمه ، فيشير إلى حرف ( التاء ) ثم ( الراء ) ثم ( الكاف ) ثم ( الياء ) ، فتفهم بعد هذه العملية كلها أن اسمه ( تركي ) ، فالله المستعان ، ولله الحمد والشكر .

( 2 ) ثم رأينا رجلاً كهلاً عمره بين الأربعين والخمسين تقريباً ، قد اضطجع على ظهره والمتخصصون يجرون له العلاج الطبيعي ، وهو لا يحرك يديه ولا يملك حراك قدميه ، ولما سألناه عن سبب ما هو فيه أخبرنا أنه كان صاعداً على عمارة ليشرف على بنائها فسقط من أعلاها وأُصيب بما أُصيب .
أما المدة التي أمضاها على ظهره فإنها ثمان سنوات وأربعة أشهر ، يُغير له كما يُغير للطفل الصغير ، يزيل الناس عنه أذاه ، وينظفونه كل ساعتين ، مع القيام بتغسيله كل صباح ، ولله الحمد على نعمه .

( 3 ) وأما الشاب الآخر فاسمه ( عائض ) ، كان سائراً في سيارة مع صديقين له بسرعة ( 150كم ) تقريباً فاختل توازن السيارة مما أدى إلى حادث مروع مات فيه أحدهم ، وسلم الثاني ، وأما صاحبنا ( عائض ) فهو على فراشه منذ ثمانية أشهر ، لا يحرك إلا رأسه ، قد أُمدَّ كما يُمد الميت ، ولله الأمر من قبل و من بعد .

( 4 ) وهذا شاب اسمه ( حمود ) كان يعيش في آمال واسعة ، كما يؤمل غيره من أترابه الشباب ، فقد توجه إلى ( وادي الدواسر ) ليلتحق بالدفاع الجو ي ، وهو في طريقه لهذه الآمال ، وتلكم الأحلام ، وهاتيك الأماني ، يُصاب بحادث يلقيه مقعداً لا يتحرك إلا بصعوبة بالغة ، إذ يحرك يديه ورجليه بالأجهزة ، وقد ثقُل كلامه، وهو على هذه الحالة منذ خمس سنوات ، و لا حول و لا قوة إلا بالله .

( 5 ) ورأينا شيخاً في الخمسين من عمره ، يبتسم في وجهك ويصافحك ، ويحرك نفسه بواسطة (كرسي) للمعاقين ، فقد أُصيب بحادث مروري قبل عشر سنوات ، نتج عنه إصابته بشلل نصفي ، فما دون الحوض لا يملك منه حراكاً ، وإلى الله – تعالى – المشتكى .

( 6 ) وهذا رجل فلسطيني اسمه ( عبد الحليم ) أتيناه وهو يردد آيات القرآن الكريم ، فقد حفظ في مرضه هذا ما يزيد على خمسة عشر جزءاً ، مع أنه يحتاج إلى من يفتح له صفحات المصحف ، فإذا انتهى من صفحة فإنه يحتاج إلى من يفتح له الصفحة الأخرى ؛ لأنه قد أُصيب بشلل رباعي من جراء حادث مروري منذ عام 1407هـ ، و( كيس بوله) – كرمكم الله تعالى – ملازم له ، ولقد دخلنا عليه ذات يوم فإذا ( كيس بوله ) فوق حجره ، وقد أُحرج إحراجاً أسأل الله – تعالى – ألا يحرجني ولا إياكم هذا الإحراج ، فهو لا يستطيع تغطيته، ولا شك أنه غير راغب أن نراه في هذا المنظر ، فلله الحمد على نعمائه .

( 7 ) ورأينا رجلاً اسمه ( مرضي ) شاب في عنفوان الشباب أُصيب بحادث مروري أيضاً ، فأُصيب بشلل رباعي مباشرة ، فهو منذ ما يزيد على ( عشر ) سنوات مضطجع على فراشه ، ينادي بأعلى صوته ونحن في الممرات فلما جاء الأخصائي الاجتماعي ليرى ما سبب ارتفاع صوته ؟ وما المشكلة التي أصابته ؟ ماذا دهاه؟ ما الذي حدث ؟ أي كرب حصل لهذا المريض جعله ينادي بأعلى صوته ؟ فرأينا عجباً من العجب ! رأينا والله ما هالنا ! أتدرون لماذا ينادي ؟ لماذا يصيح مستغيثاً مستنجداً ؟ إنه يريد من أحدنا أن يرفع الغطاء عن وجهه فقد آذاه، وهو لا يستطيع أن يزيل غطاءه عن وجهه إلا عن طريق غيره ، إنْ آلمه البرد استنجد بغيره ، وإنْ آذاه الحرّ استغاث بسواه ، فلله الحمد والشكر على نرفل به من نعم عظيمة .

( 8 ) وأما الأخ ( محمد عبد الله ) من السودان فهو يسير على ( كرسي ) كهربائي يقوده بأصبع بيده اليمنى التي لا يحرك غيرها ، أما سائر أطرافه فلا يحرك منها شيئاً ، وهو على هذه الحالة منذ ما يقارب ( تسع ) سنوات بسبب حادث مروري والحمد لله .

( 9 ) ودخلنا على غرفة رجل اسمه ( نابت ) كان سائقاً لسيارات السفر الكبيرة ، فأصيب بحادث قبل (ثمان ) سنوات انتقل بسببه من السفر والتنقل والذهاب والإياب إلى ملازمة الفراش ، فلا يداه تخدمانه ، و لا قدماه تنقلانه ، بل إنه قد وُضع بجانب رأسه وهو مضطجع جرس إذا أراد حاجة مدَّ رأسه إلى الجرس ليعض عليه بأسنانه فيأتيه من يساعده ، ومساعدته تعني المساعدة بكل ما يحتاج ؛ لأنه لا يملك غير رأسه حتى ربما هيأ له غيره حبات المكسرات ، وأزال عنها قشورها ليأكلها .

( 10 ) وعن حال بعض المرضى يقول أحد العاملين : إن أحدهم ينادينا ، فإذا أتيناه قال : من فضلك أزل الذباب عن وجهي فقد آذاني ولا أستطيع طرده !!

( 11 ) أما قسم الغيبوبة ، فقد رأينا رجلاً مصاباً بالضغط والسكر وهو غائب عن الوجود منذ ( عشر ) سنوات ، لا يتكلم ولا يسمع ولا يبصر ، بل إنه ملازم لفراشه ينتظر فرج ذي الفرج ، والتنفيس ممن بيده التنفيس سبحانه .

( 12 ) ودخلنا على غرفة فيها غلام عمره ( سبع عشرة ) سنة قد أصيب بحادث قبل ( ثلاثة ) أشهر ، فقد فيها وعيه ، فهو في غيبوبة تامة .

( 13 ) ورأينا رَجُلين قد جيء بهما قبل ( خمسة ) أشهر لا يشعران بوجودهما لإصابتهما بالغيبوبة .

( 14 ) ورأينا شاباً قد أوثقت يده بسريره ، فربطت يده اليمنى ؛ لأنه لا يحرك غيرها ، فلما سألنا عن سبب ربط يده قالوا : لأنه يحركها حركة لا شعورية فيضرَّ نفسه بخدش أو سقوط ، أو إزاحة غطاء ، أو كشف عورة ؛ لأنه لا يشعر بما حوله .

( 15 ) ورأينا من يرفع صوته بالشخير ، لكنه لا يشعر بمن حوله ، وإذا به مصاب بالضغط والسكر ، وهو مقطوع لا أقارب له .

( 16 ) ورأينا من يتلوى ويتأوه تأوهاً يذيب الحجارة الصلبة ، ويبكي العيون ، ويدمي القلوب ، فتارة يقبض على سريره بكل ما أوتي من قوة ، وتارة يطلقه ، وهكذا وهو مع ذلك لا ينفك عن التأوه والتوجع ، والله أعلم بمدى بما يشعر من آلام ، وما يقاسي من أوجاع ، فعسى الله ألا يحرمه الأجر .

( 17 ) ورأينا شاباً عمره ( سبع عشرة ) سنة قد وُلد لا يسمع ولا يبصر ولا يتكلم مع غيبوبة ونقص عقلي فلله الحمد .

( 18 ) ورأينا شاباً اسمه ( مرضي ) فيه ماء البهاء ، ونضرة الشباب ، إذا رأيته يُخيل إليك أنه مُعافى ، فعيناه ترمشان غير أنه في حقيقة أمره قد أصيب بغيبوبة كاملة ، وذلك في حادث مروري قبل ( شهر ) ، نقله الحادث إلى هذا المكان ، ونقل أخته إلى قسم النساء ؛ لإصابتها بمثل إصابته ، ونقل أمهما إلى قبرها لوفاتها في الحادث نفسه ، فلا حول ولا قوة إلا بالله .

( 19 ) ورأينا رجلين شيخين كبيرين ، كان شأنهما عجباً ، كان على سريرين متقاربين ، أما أحدهما فقد بصره ، وجلس على السرير يحرك جسمه ويديه ، وكأنه يقود سيارة ، فلما سلمت عليه وصافحته ، أمسك يدي بكلتا يديه ، بطريقة غريبة ، ثم قال : ( عندك شيٍ من شِيني ) ؟! ، فقلت له : وش هو شِينك ؟ فأدخل أصبعه في فمه ومصه ، يشير إلى رغبته بالدخان ! فخرجنا منه ونحن نتفكر في أن من شبَّ على شيء شاب عليه ، إذ أخبرنا الأخصائي في المستشفى أن هذا الرجل الكبير كان سائقاً في أول حياته ، وكانت السيجارة لا تكاد تفارق فمه !

( 20 ) وأما الرجل الكبير الآخر فكنا نسمعه يؤذن ثم يقيم الصلاة بأعلى صوته ، وأخبرنا الأخصائي أن هذا الرجل كان مؤذناً أول عمره ، وأنه على هذه الحالة في فراشه بين وقت وآخر يؤذن ويقيم ؛ لاعتياده ذلك فترة من عمره !
( 21 ) ورأينا شيخاً في الستين من عمره يتكلم معك ويحدثك ، بل ربما آنسك وأضحكك ، غير أننا سألناه عن أولاده فقال بعبارته : ( الله يلعنهم ) فقلنا : يا عم ، قل : الله يهديهم ، فقال : ( الله لا يهديهم ، الله يلعنهم ، من يوم دخلت المستشفى ما زاروني ، ما فيهم خير ، يسكنون في الرياض ، والخرج ، ولا يزوروني، الله يلعنهم ) وهكذا يختم باللعن كما بدأ به ، وذلك من مرارة العقوق التي ذاقها ، وألم الحرمان الذي يقاسيه ، مع شلله وعدم قدرته على خدمة نفسه ، فنعوذ بالله من العقوق ، وغضب الوالدين .

أيها الأخ الكريم ، هذا بعضٌ مما رأينا في ( مستشفى النقاهة ) الموجود في جنوب الرياض ، وما خفي كان أعظم ، وما تفرق في الأماكن الأخرى والمدن العديدة فهو أكثر .
وينبغي ألا يغيب عن بالك بعض الدروس المستفادة من رؤية وسماع هذه القصص ، فمن الدروس :

1- أن نكثر من حمد الله – تعالى – وشكره على النعم العظيمة التي نرفل بها صباحاً ومساء ً .
2- ومنها ألا نحزن عند نزول مصيبة بحصول مكروه أو زوال محبوب ؛ لأن من نظر مثل هذه المصائب هانت عليه مصيبته .
3- ومنها أن نبادر بالأعمال الصالحة ما دمنا في صحة وعافية ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " اغتنم خمساً قبل خمس " وذكر منها - صلى الله عليه وسلم- : " وصحتك قبل سقمك " رواه الترمذي والحاكم والبيهقي وصححه الألباني ، وقال - صلى الله عليه وسلم - : " إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً " رواه البخاري .
4- ومنها أن ندعو لإخواننا المرضى والمبتلين بالمعافاة والأجر ، فالدعاء بظهر الغيب مستجاب .
5- ومنها أن نتخذ الأسباب التي هي من قدر الله ، كعدم التهور في السيارات وعدم السماح للسفهاء وصغار السن أن يؤذوا عباد الله بسيارات ربما أنهم لم يدفعوا فيها مالاً قليلاً ولا كثيراً ، ولم يفكروا بما تجنيه عليهم من أضرار وأخطار ، والعتب كل العتب على أولياء أمور هؤلاء السفهاء.
6- ومنها الحرص على عدم الوقوع في غضب الله – تعالى – وانتقامه ؛ وذلك ببر الوالدين وعدم عقوقهما ، فيا بؤس من لعنه والده ، أو غضب عليه .
7- ومنها ألا نبارز الله – تعالى – بالمعاصي ، فخير الله إلينا نازل ، وشرنا إليه صاعد ، يتحبب إلينا بالنعم ، ونتبغض إليه بالذنوب ، يا أخي العاصي – وكلنا كذلك – ألا تخاف أن يسلبك الله نعمة البصر التي طالما عصيت الله – تعالى – بها بمشاهدة المحرمات ؟ ألا تحذر أن يصمك الله – تعالى – فتفقد السمع ، وأنت لم تترك محرماً إلا استمعت إليه ، ألا تخشى أن تُخدم كما يُخدم الطفل بقيةَ عمرك ؟ احذر فإن الله – سبحانه- سريع الانتقام ، ذو البطش الشديد .
8- وأخيراً فمن الدروس الإلحاح بدعاء الله – تعالى – أن يمتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا أبداً ما أبقانا ، والدعاء بألا نُرد إلى أرذل العمر .

والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين .




هناك تعليقان (2):

  1. عبدالله المسند19 مايو 2010 في 11:33 م

    جزاكـ الله كل خير
    ووفقك الله وألبسك ثياب الصحة والعافيه


    الله يشفيهم ويقومهم بالعافيه
    ويجعل ماصابهم تكفير لذنوبهم

    والله يديم علينا ومن يعز علينا الصحه والعافيه
    ويجعلنا ممن يعتبر

    مقاله اتحفتني

    جزاكـ الله كل خير

    ردحذف
  2. عبدالله ابراهيم السماعيل12 يونيو 2010 في 2:57 م

    شكرا يا باباهذا المقالئ مرة رانع

    ردحذف