2010/05/29

صبرًا أميرنا البار


بسم الله الرحمن الرحيم



صبرًا أميرَنا البارّ
ورحم الله والدَتكم ( الساجدة )


رحم الله والدة سمو الأمير ( أحمد بن عبد الله بن عبد الرحمن آل السعود ) ووالديّ وجميع المسلمين ، فلقد كان عصر الأربعاء 12 / 6 / 1431هـ عصرًا مهيبًا حزينًا ! لقد اجتمعت الجموع المختلفة الطبقات متبعة جنازة والدة سمو الأمير الصالح ، جنازة اجتمع فيها الأمير والمأمور ، الصغير والكبير ، الغني والفقير ، حتى أمست تلك الجنازة ( جنازة شعبية ) فيها المجتمع بألوان طيفه كاملة.
والمشهد الذي لا يمكن – لمن حضر تلك الجنازة – أن ينساه هو ما تمتع به أميرنا المحبوب ( الأمير أحمد ) من صور البرّ بوالدته الراحلة – عليها وعلى والدتي والمسلمين رحمة الله – فمن صور البر أن لازم الابن البار والدته المسجاة في سيارة الإسعاف ، وكأني به يحاول أن يملأ عينه من الجسد المغطّى ولو لمزيد دقيقتين أو ثلاث ( زمن المسافة بين المسجد والمقبرة ) ، إنها صورة تنطق بكل معاني البرّ ، وتوحي بهول المصيبة ، ولوعة الفراق !
يا ترى ما الذي خطر في بالكم – يا سموَّ الأمير – وأنتم تصاحبون والدتكم في المشوار (الدنيوي) الأخير ؟! هل استذكرت يوم أن كنت تصحبها وأنت طفل صغير ؟ هل تذكرت عندما ركبت معكم في بدايات قيادتكم السيارة ؟ وهي ترى كيف كَبُرَ طفلها فأصبح رجلاً ؟ يا ترى ما عساها أسعفتك الذاكرة في تلك اللحظات الوداعية ؟!
ولقد زاد ذلك الموقف خشوعًا وإجلالاً عندما أنكر سموّ ( الأمير البارّ ) إنكارًا شديدًا على من أراد من سموّه ألا ينزل في القبر لمواراة والدته الثرى ! أنكر سموّه ذلك الأمر إنكارًا مصحوبًا بالعَجَب ! وعجَبًا محمّلاً بألفاظ الإنكار ! كيف تريدني ألا أنزل في قبر أمّي ؟! ولسان حاله يقول : كيف أفرِّط في مزيد من الوقت أكون فيها أقرب إلى ( جَسَد أمّي ) ؟! كيف أزهد في ملامسة الجسم الحنون ، والأم الرؤوم ملامسة لا عودة لها قبل يوم الحشر !! نزل سمو الأمير الصالح في قبر والدته وقام بإنزالها في قبرها ، ووضعها في لحدها ، وحلِّ رباط كفنها ! ويا لها من لحظات !! أنَّى للوصف أن يحيط بها !
ولما انتهى سموّه من صف اللبنات ، وكان آخر الخارجين من القبر ، ازدحم المعزّون للقيام بواجب العزاء، إلا أن سموّ ( الأمير المصاب بأغلى الأحباب ) ترك المعزّين – مع احترامه إياهم – ورجع إلى القبر ليكمل أعمال الدفن ، فيهيل التراب ، ويحمل ( عربات أحجار البحص ) ، ويرش الماء ، ولما تمَّ القبر على السُّنة - كما هو الحال في عموم قبورنا في هذه البلاد والحمد لله على المنّة بظهور السُّنة – لما تمَّ ذلك قام أميرنا الصالح على قبر والدته القيام المشروع ؛ حيث وقف حيال رأسها ولهج بالدعاء ، وما أحوجها ذلك الوقت إلى الدّعاء " ...أو ولدٍ صالحٍ يدعو له " .
سموَّ الأمير كأنّي بكم والحال تلك تردِّد معي :

أمَا والتُرْبُ قدْ غطّتْكِ (أمّي)
فـغايةِ مُـنْيَتي أني الفِداءُ!

وكيفَ يطيبُ عَيشي فوقَ أرضٍ
و(أمّي) تحتَها ؟ أنّى الهناءُ؟!

وما دامَ الثرى واراكِ (أمّي)
فـكـلُّ لذائـذِ الـدّنيا هَباءُ


سموَّ أميرنا المحبوب ، إنّ مما يخفّف المصاب ، ويطوي الأحزان ، وينسي الآلام ، ما وفَّق الله تعالى إليه والدتكم الراحلة من ( حُسنِ الخِتام ) ، وأيُّ موت أطيب من موتٍ على سجادة الصلاة ؟!
إنَّ رحيل والدتكم الكريمة طاهرة مصلية ( ساجدة ) لله رب العالمين لرحيلٌ مبارك – هكذا نحسبها والله حسيبها ولا نزكيها على الله تعالى – ألم يقل الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - : " يُبعَثُ المرءُ على ما ماتَ عليه " ؟ وما أطيبه من بعث يوم يقوم الناس لربّ العالمين ، وتقوم فقيدتكم الغالية تنادي ( سبحان ربي الأعلى ، سبحان ربي العظيم ) ! ألسنا نؤمن بقول رسول الهدى - صلى الله عليه وسلم - : " إذا أراد الله بعبدٍ خيرًا استعمله " قالوا : كيفَ يستعمله يا رسولَ الله ؟ قال عليه الصلاة والسلام : " يوفقه لعملٍ صالحٍ ثم يتوفاه عليه " ، الله أكبر ما أعظم فضل الله على عباده ! هو الذي يوفقه للعمل الصالح ، وهو الذي يتوفاه عليه ! ولعلَّ من هذا الباب ما ورد عن بعض السلف أنه كان يكثر من سؤال الله تعالى ( الميتة الحسنة ) فقيل له ، وما الميتة الحسنة ؟ قال : أن يتوفاك الله وأنت ساجد !
أميرَنا البارّ ، إنَّا لنرجو من الله تعالى أن تكون والدتكم الراحلة قد لقيت أجر أيتامٍ وأراملَ طالما رعتهم وكفلتهم أيام حياتها ، والله كريم لا يضيع أجر مَن أحسن عمَلاً .
أسأل الله تعالى للفقيدة الكريمة ولوالدتي وجميع المسلمين مقعد صِدقٍ عندَ مليك مقتدر ، وأن يحسن لنا جميعًا الختام ، فإنما " الأعمال بالخواتيم " !
أعانكم الله – يا سموَّ الأمير – على هذا المصاب الجَلَل ! وملأ قلبكم بالرضا والاطمئنان، وألهمكم وذويكم بَرْدَ السلوان ، واحتساب الأجر من الكريم المنان .
ومسك ما أختم به مقالتي أن أذكّر بما رواه الإمام أحمد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " ما من مسلم ولا مسلمة يصاب بمصيبة فيذكرها وإن طال عهدها – أي قدُم عهدها – فيُحْدِثُ لذلك استرجاعًا ، إلا جدد الله له عند ذلك فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب " ، وبحفظ الله دمتم .






د / إبراهيم بن عبد الله السماعيل

السبت 15/ 6 / 1431هـ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق